فتح مكة لم يكن صلحاً.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
قال أبوداود في "السنن" كِتَاب الْخَرَاجِ وَالْإِمَارَةِ وَالْفَيْءِ » بَاب مَا جَاءَ فِي خَبَرِ مَكَّةَ:..قَالَ أَبُو دَاوُد :
سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ سَأَلَهُ رَجُلٌ قَالَ : مَكَّةُ عَنْوَةً هِيَ ، قَالَ : إِيشْ يَضُرُّكَ مَا كَانَتْ ؟ قَالَ : فَصُلْحٌ قَالَ : لَا .
وقال ابن القيم في "زادالمعاد":
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الجهاد والمغازي والسرايا والبعوث » فصل في الأدلة على أن مكة فتحت عنوة":فصل :
والذي يدل على أن مكة فتحت عنوة وجوه :
أحدها : أنه لم ينقل أحد قط أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهلها زمن الفتح ، ولا جاءه أحد منهم صالحه على البلد ، وإنما جاءه أبو سفيان ، فأعطاه الأمان لمن دخل داره ، أو أغلق بابه ، أو دخل المسجد ، أو ألقى سلاحه . ولو كانت قد فتحت [ ص: 109 ] صلحا ، لم يقل : من دخل داره ، أو أغلق بابه ، أو دخل المسجد فهو آمن ، فإن الصلح يقتضي الأمان العام .
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه أذن لي فيها ساعة من نهار ) وفي لفظ : ( إنها لا تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ) وفي لفظ : ( فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقولوا : إن الله أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ) . وهذا صريح في أنها فتحت عنوة . وأيضا ، فإنه ثبت في " الصحيح " : ( أنه جعل يوم الفتح خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى ، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى ، وجعل أبا عبيدة على الحسر وبطن الوادي ، فقال : يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فجاءوا يهرولون ، فقال : يا معشر الأنصار ، هل ترون أوباش قريش ؟ قالوا : نعم ، قال : انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا ، وأخفى بيده ، ووضع يمينه على شماله ، وقال : موعدكم الصفا ، قال : فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه ، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا ، وجاءت الأنصار ، فأطافوا بالصفا ، فجاء أبو سفيان فقال : يا رسول الله! أبيدت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم . فقال [ ص: 110 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .
وأيضا ، فإن أم هانئ أجارت رجلا ، فأراد علي بن أبي طالب قتله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) وفي لفظ عنها : لما كان يوم فتح مكة ، أجرت رجلين من أحمائي ، فأدخلتهما بيتا ، وأغلقت عليهما بابا ، فجاء ابن أمي علي فتفلت عليهما بالسيف ، فذكرت حديث الأمان ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) وذلك ضحى بجوف مكة بعد الفتح . فإجارتها له ، وإرادة علي رضي الله عنه قتله ، وإمضاء النبي صلى الله عليه وسلم إجارتها صريح في أنها فتحت عنوة . وأيضا فإنه أمر بقتل مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، وجاريتين ، ولو كانت فتحت صلحا ، لم يأمر بقتل أحد من أهلها ، ولكان ذكر هؤلاء مستثنى من عقد الصلح ، وأيضا ففي " السنن " بإسناد صحيح :
" أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم فتح مكة ، قال : أمنوا الناس إلا امرأتين ، وأربعة نفر . اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ) والله أعلم .
قال الماوردي في "الحاوي":
قال الماوردي : اختلف العلماء في فتح مكة ، هل كان عنوة أو صلحا ؟ فذهب الشافعي إلى أن مكة فتحت صلحا بأمان علقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرط شرطه مع أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام غداة يوم الفتح ، قبل دخول مكة على إلقاء سلاحهم ، وإغلاق أبوابهم ، ووافق الشافعي على فتحها صلحا أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والزهري ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال مالك ، وأبو حنيفة ، وأكثر الفقهاء ، وأصحاب الرأي : إن مكة فتحت عنوة ، فمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهلها ، فلم يسب ولم يغنم لعفوه عنهم ، واختلف من قال بهذا ، هل كان عفوه عنهم خاصا أو عاما لجميع الولاة : فقال أبو يوسف : كان هذا خاصا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعفو عما فتحه عنوة وليس ذلك لغيره من الأئمة .
وقال ابن حجر في "الفتح":
وروى أحمد ومسلم والنسائي من طريق عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال : أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد بعث على إحدى الجنبتين خالد بن الوليد وبعث الزبير على الأخرى وبعث أبا عبيدة على الحسر - بضم المهملة وتشديد السين المهملة أي الذين بغير سلاح - فقال لي : يا أبا هريرة اهتف لي بالأنصار . فهتف بهم فجاءوا فأطافوا به ، فقال لهم : أترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ؟ ثم قال بإحدى يديه على الأخرى :
احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا . قال أبو هريرة : فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه ، فجاء أبو سفيان فقال : يا رسول الله أبيحت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم . قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أغلق بابه فهو آمن وقد تمسك بهذه القصة من قال : إن مكة فتحت عنوة وهو قول الأكثر ، وعن الشافعي ورواية عن أحمد أنها فتحت صلحا لما وقع هذا التأمين ، ولإضافة الدور إلى أهلها ، ولأنها لم تقسم ، ولأن الغانمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها . وحجة الأولين ما وقع من التصريح من الأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد ، وبتصريحه - صلى الله عليه وسلم - بأنها أحلت ساعة من نهار ، ونهيه عن التأسي به في ذلك . وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها ويترك لهم دورهم وغنائمهم ؛ لأن قسمة الأرض المغنومة ليست متفقا عليها ، بل الخلاف ثابت عن الصحابة فمن بعدهم ، وقد فتحت أكثر البلاد عنوة فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان مع وجود أكثر الصحابة ، وقد زادت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدعي اختصاصها به دون بقية البلاد ، وهي أنها دار النسك ومتعبد الخلق ، وقد جعلها الله - تعالى - حرما سواء العاكف فيه والباد . وأما قول النووي :
احتج الشافعي بالأحاديث المشهورة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر ؛ لأن الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع له من قوله - صلى الله عليه وسلم - : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن كما تقدم وكذا " من دخل المسجد " كما عند ابن إسحاق فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال ، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك لأنهم استعدوا للحرب كما ثبت في حديث أبي هريرة عند مسلم أن قريشا وبشت أوباشا لها وأتباعا فقالوا : نقدم هؤلاء ، فإن كان لهم شيء كنا معهم ، وإن أصيبوا أعطيناه الذين سألنا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أترون أوباش قريش ؟ ثم قال بإحدى يديه على الأخرى أي احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا . قال : فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا إلا قتلناه وإن كان مراده بالصلح وقوع عقد به فهذا لم ينقل ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الأول وفيه ما ذكرته . وتمسك أيضا من قال إنه مبهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة الفتح : فقال العباس لعلي : أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة . ثم قال في القصة بعد قصة أبي سفيان من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد . وعند موسى بن عقبة في المغازي - وهي أصح ما صنف في ذلك عند الجماعة - ما نصه أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قالا : يا رسول الله كنت حقيقا أن تجعل عدتك وكيدك بهوازن ، فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة ، فقال : إني لأرجو أن يجمعهما الله لي : فتح مكة وإعزاز الإسلام بها ، وهزيمة هوازن وغنيمة [ ص: 606 ] أموالهم . فقال أبو سفيان وحكيم : فادع الناس بالأمان ، أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها أآمنون هم ؟ قال : من كف يده وأغلق داره فهو آمن . قالوا : فابعثنا نؤذن بذلك فيهم . قال : انطلقوا ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل دار حكيم فهو آمن ، ودار أبي سفيان بأعلى مكة ودار حكيم بأسفلها . فلما توجها قال العباس : يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أن يرتد ; فرده حتى تريه جنود الله . قال : افعل فذكر القصة ، وفي ذلك تصريح بعموم التأمين ، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة ، فمن ثم قال الشافعي :
كانت مكة مأمونة ولم يكن فتحها عنوة ، والأمان كالصلح . وأما الذين تعرضوا للقتال أو الذين استثنوا من الأمان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة . ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره - صلى الله عليه وسلم - بالقتال وبين حديث الباب في تأمينه - صلى الله عليه وسلم - لهم بأن يكون التأمين علق بشرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال ، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك وقاتلوا خالد بن الوليد ومن معه فقاتلهم حتى قتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة ؛ لأن العبرة بالأصول لا بالأتباع وبالأكثر لا بالأقل ، ولا خلاف مع ذلك أنه لم يجر فيها قسم غنيمة ولا سبيا من أهلها ممن باشر القتال أحد ، وهو مما يؤيد قول من قال لم يكن فتحها عنوة . وعند أبي داود بإسناد حسن " عن جابر أنه سئل : هل غنمتم يوم الفتح شيئا ؟ قال : لا "وجنحت طائفة - منهم الماوردي - إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة ، وقرر ذلك الحاكم في " الإكليل " . والحق أن صورة فتحها كان عنوة ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان ، ومنع جمع منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحا ، أما أولا فلأن الإمام مخير في قسمة الأرض بين الغانمين إذا انتزعت من الكفار ، وبين إبقائها وقفا على المسلمين ، ولا يلزم من ذلك منع بيع الدور وإجارتها . وأما ثانيا فقال بعضهم : لا تدخل الأرض في حكم الأموال ؛ لأن من مضى كانوا إذا غلبوا على الكفار لم يغنموا الأموال ، فتنزل النار فتأكلها وتصير الأرض عموما لهم كما قال الله تعالى ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم الآية . وقال : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها الآية . والمسألة مشهورة فلا نطيل بها هنا ، وقد تقدم كثير من مباحث دور مكة في " باب توريث دور مكة " من كتاب الحج .
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وسلم والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق